بقلم : هيا العقيل
هل ما نحن فيه من كبت، و كبد، و ألم، هو عقاب لخذلاننا و تخلينا عن إخواننا، الذين اعتقدوا أننا سنكون لهم سندا بعد الله يحميهم، و شوكة في حلق عدوّهم تحرقه فتُشفي غليلنا و غليلهم، و تخفف لوعة قلوبنا و قلوبهم
هل هذا النكد، و الركود، و ضيق الصدر الذي نحن فيه هو عقاب أمّتنا التي تقاعست، و تخاذلت، و تراجعت، و تخلّفت، فكان عقابنا أن ضاقت علينا الأرض بما رحبت
تخلُّف و خذلان بلا عذر، يلحّ على بعضنا ممن لا زال عنده بقايا ضمير حيّ أن يتوب توبة صادقة، عسى الله أن يتوب علينا.. يا رب توبة تتوب بها علينا كما تبت على الصحابة كعب بن مالك و مرارة بن ربيع و هلال بن أبي أمية، حين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر شرعي، غفرتَ لهم و رحمت حالهم، لأنك أنت الغفور الرحيم، ثم لأنهم صدقوك و اعترفوا بذنبهم دون تبرير أو نفاق... فأنزلت بهم آيات خلّدتهم و خلّدت موقفهم الصادق صدق الظاهر و صدق الباطن لنتعلّم منهم الدرس على مرّ العصور و الأزمان في قولك :
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} سورة التوبة
ماذا لو كان بيننا رسول الله، هل كنا سنَصدقه القول و النية لتخلّفنا عن نصرة إخوة لنا هم في أمسّ الحاجة لنا كما فعل الثلاثة، بلا أعذار واهية و لا حجج كاذبة و ننتظر أمر الله فينا، أم كنا سنعتذر له و نراوغ و نحلف، فيقبل منا ظواهرنا و يستغفر لنا و نحن في دواخلنا منافقون و كاذبون لأقصى الحدود
تخلّفَ الثلاثة عن الغزو الذي كان في زمان الحرّ والشدة ، و شعروا و استشعروا فداحة الذنب الذي اقترفوه وعظمته، فاعترفوا به و تابوا عنه حتى تجاوز الله عنهم وغفر لهم صنيعهم؛ ذلك أنّ صدقهم و اعترافهم بذنبهم كان طوق نجاتهم مع الله، ومع رسول الله، و مع أنفسهم، صدقوا واعترفوا بتخلّفهم، ولجؤوا إلى الله تائبين مستغفرين فتاب الله عليهم. و نحن نتخلّف في زمن التكنولوجيا، و التطوّر، و التقدّم، و الصواريخ، و الدبابات، و الطائرات، و السيارات، و المكيّفات، و المعلبات و.. و ..و ....
هم عوقبوا بذلك حين تركوا قضية تعنيهم لأنهم كسالى، و نحن تركناها لاهين بالسخافات و التفاهات، تاركين خلفنا أطفال يتامى و أمهات ثكالى
ستضيق بنا نفوسنا أكثر، و ستعتصر الآلام و الدعوات التي أطلقوها في السماء لربّ السماء راحة و سكينة كنا قد نعمنا بها يوما ما، و لا نجاة لنا إلا بأن نطرق باب الله بتوبة صادقة، و بأن نخطو خطوة حقيقية نحو التغيير، و نتدارك ما يحدث قبل أن ينهار البنيان الذي قال عنه رسولنا الحبيب: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)، و قبل أن يعتلّ الجسد الذي قال عنه أيضا: (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى).
تغيير كلٌّ من مكانه، فلا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، و كلٌّ أدرى بوسعه. و إلا فسيعتلّ الجسد بأكمله، لأن أحدا منا لا تداعى له و لا اهتمّ لأمره، سيتداعى فوق رؤوسنا و رؤوس أبنائنا و الأجيال القادمة التي ستأتي من بعدنا
سيعتلّ.. لا بالسهر و الحمّى، إنما بالقلق، و الأرق، و ضيق الصدر، و الأمراض النفسية، و بأن يسلّط الله علينا عقابا من حيث لا نعلم ..إذ لا يعلم جنود ربك إلا هو (و ما يعلم جنود ربك إلا هو) سورة المدثر
لكن مع كل هذا، و في خضمّ الألم و المعاناة و ضيق الصدر و ضعف الحيلة، إلا أنّ هناك دوما فسحة أمل تزاحم القنوط و اليأس الذي قد يصيب الإنسان في هذه الحياة، و ما يواسينا في المقام الأول أن النصر بجميع أشكاله إنما هو من عند الله لا من عند البشر، و بقدرة الله و ليس من عند أحد غيره، مهما قوي و سيطر و استبدّ هذا الأحد معتقدا أنه المنتصر، فمَن كان الله عليه فمن معه؟ و من كان الله معه فمن عليه؟ و أنّ الظالم هالك لا محالة، بأمر من الله و ليس بما تدركه العقول و الأبصار، و في هذا نجد مواساة عظيمة لقلوبنا و قلوب المظلومين في كل مكان
و أنّ الظالم هالك لا محالة، بأمر من الله و ليس بما تدركه العقول و الأبصار، و في هذا نجد مواساة عظيمة لقلوبنا و قلوب المظلومين في كل مكان
المظلومون..
أين نحن منهم؟
أولئك الضعفاء الذين ينتظرون من ينصرهم و يرفع الأذى عنهم لعجزهم و قلة حيلتهم، لكنهم أقوى منا بكثير
و كيف لا ..
و دعوة المظلوم ليس بينها و بين الله حجاب
و كيف لا ..
والظلم.. قد حرّمه الله على نفسه و جعله بيننا نحن بني البشر محرّما كما جاء في الحديث القدسي
( يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا..)
و كيف لا..
و الظلم.. يأخذ صاحبه أخذا شديدا إذ جاء في الحديث الشريف: ( إنّ الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)
و كيف لا ..
و الظلم ظلمات يوم القيامة: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنَّ أخذه ألِيم شديد) سورة هود
و كيف لا..
و قوة الظالم و عدّته و عتاده ليست سوى استدراج له من حيث لا يعلم، فالعاقل لا يغترّ بإمهال الله للظالم وإنظاره له، و هو القائل:
( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، و أملي لهم إنّ كيدي متين) سورة الأعراف، و (ولا تحسبن الله غافلا عمّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) سورة إبراهيم، و قد قالوا : ارتفاع الظالم لا يعني غفلة الله عنه، فكلما زاد الإرتفاع كان السقوط مرعباً
النصر قادم لا محالة.
متى؟ علمه عند الله.
لكن... حين يأتيهم النصر الذي وعدهم الله به ماذا علينا أن نفعل يا تُرى، هل سنفرح فرحا عظيما؟ هل علينا أن نقف مكاننا نفرح بصمت مكتوفين الأيدي كما نحن الآن، و نشاركهم إياه بقلوبنا خجلا و على استحياء؟ و كيف لا و هذا النصر جزاءا لهم هُم بما صبروا، و عملوا، و احتملوا، و احتسبوا، و ليس لنا نحن أي جزء فيه..
قد ينبغي علينا أن نصمت حينها كما نحن صامتون الآن، ففرحة النصر هذه هي ملكية خاصة بهم، و لهم، و منهم، ضحّوا في سبيلها بكل ما يمتلكون، و لا يحقّ لمن لا يمتلك الشيء أن يشارك صاحبه به إلا إن سمح له الأخير بذلك. و هذا ما نأمل أن يحدث.. أن يشاركونا فرحة النصر، و يسامحونا على تقصيرنا، لأنهم سيعلمون أنّ بعضنا قد حاول قدر استطاعته، و إن كانت محاولاتنا فُتات مقابل تضحياتهم، لكننا نأمل و الأمل في ديننا بعد العمل عبادة نؤجر عليها
في الختام..
لتُهدى لهم كل روايات العالم .. و القصائد.. و الخُطب.. و الملاحم و البطولات..و كل ما قد قيل عبر التاريخ حتى يومنا هذا و ما بعد يومنا هذا عن حب الوطن و التضحية لأجله بكل شيء
الحزن ليس على من رحل، فهم يقينا في مكان أفضل إن شاءالله، بل على قلوبنا التي باتت لا تهتز لما تراه من مشاهد القهر. المخيف أنّ معظمنا قد اعتاد المشهد، و أنّ في جوفنا ما عاد هناك رهبة له كما كان، و على هذا نحزن!
حقا كما قال دوستويڤسكي:
(أبشع مافي الأمر هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز أنفسنا، هذا التعوّد على الشر ..هو ما ينبغي أن نحزن له)
و السلام .
Comentarios