و ضمائر بعض الأحياء منا تحت الأنقاض.. منذ زمن
- Haya Alaqeel
- Nov 17, 2023
- 4 min read

بقلم : هيا العقيل
حياة كلّ منا لن تنتهي قبل أن يتذوق من كأس الخوف و الجوع و النقص في الأموال و الأنفس و الثمرات في محيطه ومن حوله، و هذه سنة الحياة حتى يميز الله الخبيث من الطيب، و حتى يسير كلٌّ منا في اتجاه مصيره الذي يستحقه في نهاية المطاف، فإما جنة و إما نار " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"
إذا فهي دار ابتلاء، نخرج فيها من امتحان لامتحان آخر، هكذا حتى نلقى الله، لنرى نتيجة اختباراتنا التي مررنا بها في هذه الدنيا
و ما أصعبهم من ابتلاءات..
و ما أصعبهم من اختبارات..
و الاختبارات لا تنتهي..
و ما أصعب اختبار الأمس،
ما أصعبه على ضمائرنا و كرامتنا
و إنسانيتنا
أيها الأمس القريب..
أيها الموت المنغمس بالحقد الأسود..
قد لامست روحي من زاوية لم يلمسها أحد قبلك هذه المرة التي ليست كما كل مرة، يقينا هي ليست كما كل مرة، أو أني قد أقول ذلك مع كل مرة تُصاب فيها إنسانيتنا بصدمة لا تقوى على تحمّلها، معتقدين بسذاجتنا أن كل مرة هي ليست كما كل مرة
يا مَن أصبحتَ الماضي للبعض، و بقيت الحاضر للبعض،و رافقت المستقبل لأولئك الذين غرست أنيابك فيهم و رحلت بعدها، مخلّفا آثار مرورك فوق أجسادهم و أرواحهم قبل أن ترحل و تودّعهم آخذا معك أغلى ما يملكون من بشر، أو صحة، أو ذكريات و أثر
و قد تركتني أبكي بصمت أمام صمودهم، و أجهش بعيدا عن أنظارهم التي شعرت أنها تتوجه إليّ رغم المسافات التي تفصلني عنهم، و تخاطبني بالتحديد معتقدةً بذلك أني ذات قلب رقيق، و ما علمتُ أن البكاء هو أضعف الإيمان فبتنا من ضعف إلى ضعف نتنقل بين مآسيهم، و ننتظر منهم أن يمدّوننا بقوة الإيمان والصبر عند البلاء
كم غصّة تركتَ في حناجرهم،
و كم حرقة أودعتها في قلوبهم،
و كم حبيب انتشلتَ من بينهم،
و كم ذكرى سرقتَ من تاريخ ذكرياتهم،
و كم قطعة أخذتها معك من أجسادهم إلى غير رجعة؟
أصبحتْ الذكريات فارغة من المحبّين..
أصبحتْ الصور مجرد ذكرى لأجساد في الأرض و أرواح في السماء..
أصبحت الألسن صدئة لا تذكر أسماء أولئك الذين غادروها..
و الأماكن التي جمعَتهم أصبحت أنقاض فوق أجساد.. و القلوب تحترق بلا رائحة و لا دخان لغيابهم..
كل همّ بعد ذلك هو صغير..
و كل ألم بعد ذلك هو صغير..
و كل شكوى بعد ذلك هي.. لا شيء
الآن، و الآن فقط فهمنا بعمق و استشعرنا بجميع جوارحنا معنى ما أخبرتنا به يا رسول الله:( من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها)
إننا نملك الدنيا بحذافيرها و زيادة، دون أن نشعر و دون أن ندري و دون أن نكلّف أنفسنا عناء الاستشعار ، استشعار النعيم و النعم التي يستحيل أن تُعدّ أو أن تُحصى
حين تنام بلا صوت انفجارات و انهيارات و نحيب و بكاء، فأنت في أعلى درجات النعيم..
حين تفتح عينيك صباحا و ما زال جسدك متصلا ببعضه، فأنت أغنى الناس..
حين تنادي على أحبابك في البيت فيأتونك دون أن ينقص أحدهم، فأنت في أدفئ بقاع الأرض..
حين تنظر للمرآة، فترى وجهك كاملا متكاملا نظيفا بلا دماء و لا رماد و لا سواد، فأنت أجمل الناس..
حين تنظر لطفلك فتجده ساكنا هادئا لا يرتجف رعبا و خوفا، فأنت أسعد الناس..
حين تفتح باب بيتك و لا يتهاوى أمامك، فأنت تعيش في قصر يحلم به الكثير .. الكثير جدا
حين تدخل فتجد أحبابك ما زالوا في أرجائه، و ذكرياتك و مقتنياتك ما زالت في أماكنها، فأنت بألف خير و إن حاولت إيهامنا بغير ذلك..
حين تجد ماء لتشربه، و تتوضأ به و تغتسل به و تمسح دماءك إن جُرحتَ.. فأنت ذو حظ عظيم
حين يُدق الباب فتسمعه و تهرع لتفتحه مستقبِلا أحد أحبابك، قادرا أن تمشي على قدميك و تعانقه بيديك الاثنتين دون أن تكون إحدى أعضاء جسدك قد ودّعتك دون رجعة، فأنت من أغنى الأغنياء
حين تستطيع تقبيل أبنائك في أسرّتهم قبل النوم و لم ينقص أحد منهم، و تتصل بأحبابك فيردّون على اتصالك أو يعاودون الاتصال بك فأنت في أعلى درجات السعادة الحقيقية
حين تستطيع أن تأخذ دواءك بيد و تتناول كوب الماء بيدك الأخرى، فأنت معافى و إن كنت في عين غيرك مريض..
فحتى المرض درجات في حضور المصائب..
في حضور الحروب..
في حضور التنكيل والقتل و التعذيب..
لن أذكر ما رأيت لأن العالم هذه المرة كله قد شاهد و رأى عن بكرة أبيه، لقد شاهد العالم برمّته هذه المرة أفلام رعب لم تفرّق بين كبير وصغير و شيخ و امرأة و شجر و بهيم.. لقد شاهد العالم هذا كله مجانا هذه المرة، بلا تذاكر تُشترى لحضورها على شاشات كبيرة في قاعات السينما، و لا لتدريب ممثلين كي يتقنوا أدوارهم ليصبوا الرعب في قلوبنا و يثيروا فينا مشاعر كنا قد نسينا أنها موجودة في دواخلنا من رعب و خوف و حزن و صدمة و عجز و ألم و يأس، المشاهد هذه المرة لا تتكرر لأنّ كل مشهد بحدّ ذاته قصة، و المشاعر تعتصر الألم فينا فنعتقد لوهلة أن كل مشهد منها هو الأشد على الإطلاق، فما يلبث أن يقذف به بعيدا مشهد آخر أشدّ إيلاما و دموية و قسوة و وحشية، فتطفو مشاعر جديدة ما اعتقدنا أنها تنطوي بين جدران أنفسنا تفوق تلك التي سبقتها
و هُم هناك في ابتلاء الصبر و الثبات،
و نحن هنا في ابتلاء الحق و النصرة و الكرامة
رأيناهم يودّعون أحبتهم فرادى وجماعات..
و أطفال تيتموا قبل أن يشبعوا من الحنان، و منهم قبل حتى أن يتذوّق معنى الحنان..
و أجنّة ارتقوا إلى بارئهم حتى قبل أن تطئ أقدامهم الغضّة الطرية قاعة الاختبار..
و نساء ببطون فيها أرواح، لم تُستثنى من الانتهاك و الإجرام،فقُتلت هي و بقي الذين في البطون وحيدون في مواجهة ما تبقّى لهم على هذه الأرض من حياة
و وداع بالجملة هذه المرة للأسر والعائلات.. فلا تدري ستبكي على مَن، على شاب، أم مسنّ، أم رضيع، أم طفل صغير. على الأم أم على الأب، على الزوجة، أم الزوج، أم الابنة، أم الابن، أم على العائلة بأكملها
أم على أجزاء جسدك التي غادرتك قبل أن تغادرها!
و مع ذلك ما زال الكثير هناك يتشبث بالأمل أكثر منا نحن البعيدون هنا، لا أعلم كيف، لكن بعضهم كالأمل يمشون على الأرض ينثرونه على أولئك الذين هم حولهم رغم أنهم في أشد الكرب و المصاب، كيف؟ لا أدري
هل هم بشر و نحن أشباه بشر؟
أم أننا بشر و هم أشباه ملائكة؟
أيضا لا أدري
و كأن مقولة عمر المختار ترفرف في رؤوسهم تذكِّرهم بما قال: كن عزيزا و إياك أن تنحني مهما كان الأمر ضروريا فربما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرة أخرى
و كأن مقولة عمر المختار ترفرف في رؤوسهم تذكِّرهم بما قال: كن عزيزا و إياك أن تنحني مهما كان الأمر ضروريا فربما لا تأتيك الفرصةكي ترفع رأسك مرة أخرى
و ما زالوا هناك تنقضُّ عليهم بيوتهم و ينتشلونهم من تحت الأنقاض، و نحن ما زالت قلوب بعض الأحياء منا و ضمائرهم تحت الأنقاض .. منذ زمن
و السلام
Comments