top of page

ما أغنى عنه ماله، نسبه، منصبه، شهرته .. و ما كسب!



بقلم : هيا العقيل



كلما قرأت سورة المسد :

(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)


وجدتني أقول في نفسي بعد الانتهاء من تلاوة السورة الكريمة: لا ماله، لا منصبه ، لا أولاده، لا حسبه ، لا نسبه، لا شهرته ستُغني عنه من الله شيء، فها هو بلال بن رباح العبد الحبشي يسمع رسول الله صوت نعليه في الجنة، و ها هو أبو لهب الهاشمي ابن قريش عمّ أشرف الخلق في نار جهنم، لم يغني عنه و لم يشفع له ماله و لا حسبه و لا نسبه و لا حاشيته، و لا حتى صلة قرابته بأفضل خلق الله!


نحن أيضا ...لن تغني عنا زخارف هذه الحياة الدنيا شيء إن لم نتمسك فيها بحبل الله،  ونسأله العون والثبات والتثبيت، في جهاد أنفسنا و رغباتنا و طباعنا، و تربيتها و تهذيبها، و سلخها رغما عنها عن إغراءات المظاهر من حولنا، و أن نتوب كلما أخطأنا في حق أنفسنا أو في حق غيرنا، و إلا سنكون حينها مثل أبي لهب، الذي اعتقد أنه يحقّ له أن يظلم و يتجبّر و يتكبّر  لأنه صاحب مال، و سلطة، و نفوذ، و حسب، و نسب و..و..و


نعم أن المال قد يشفع لصاحبه في الدنيا من العذاب و الذلّة و الهوان في الكثير من الأحيان، و قد سهّل المال حياة أبي لهب في الدنيا و أعطاه الهيبة و السلطة و المكانة، ذلك أن -للأسف- معظم الناس يتساهلون مع من يمتلك مالا أكثر، و منصب أعلى، و نسب (أرفع)، و جنسية(أرقى)... و..و...و غيرها من هذه القشور، و قد عبّر عنها دوستويڤسكي باختصار : ( الناس يتسامحون معك تسامحا مدهشا شريطة أن تمتلك مالاً). لكن هذا لا ينطبق يوم الحساب، و لا يوضع حينها في الحسبان من الأساس!


إليكَ..

يا من اعتقدت أن مالَك يحكم، و قوّتك الجسدية تحكم، و منصبك يحكم، و نسبك يحكم، و لا تتقّ الله فيما تملك، اعلم أننا هناك سنُحاسب جميعنا و سنُسأل جميعنا. و لن يُستثنى منا أحد لأنه ابن فلان، أو لأن في حسابه المبلغ الضخم الفلاني، أو لأن ساعة يده بالمبلغ الفلاني، أو لأن حذاءه مصنوع من الجلد الفاخر من البلد الفلاني، و حقيبته من المصمم الفلاني، و سيارته الفارهة من العلامة الفلانية


كل هذا لن ينقذنا من نفاذ حكم القوي العزيز فينا حين نعتقد أننا بكل تلك القشور الدنيوية أقوياء، و ننسى أن القوة و العزّة من صفاته عزّ وجل، و لا يتحلّى بها حقا إلا من ركل من قلبه كل تلك المظاهر و القشور، و تمسّك بمصدر العزة و القوة الحقيقي.. ألا و هو الله


و هذا لا يتعارض مع أن يسأل الإنسان الله الغِنى، فقد استعاذ نبينا الحبيب من الفقر في كافة مناحي الحياة،

فها هو سيدنا عمر بن الخطاب يقول: (لو كان الفقر رجلا لقتلته) لما يجلب معه من معاناة و صعوبة في حياة الناس على جميع الأصعدة، و ها هم الصحابة لم يرفضوا النعم لمّا جاءتهم -و قد كان ما يقارب نصف الصحابة المبشرين بالجنة هم من الأغنياء- و لكنهم لم يجعلوها تسكن قلوبهم و تتحكم فيهم، فكانوا قدوة للتوازن بين الدنيا و الآخرة


لذا فإنّ الحكمة و النجاة تتحقق حين نحاول دوما تذكير أنفسنا أن نجعل هذه الدنيا بكل ما فيها من مغريات بين أيدينا فقط،  لا أن تستقر في قلوبنا؛ فتتمكّن منا و تسيّرنا بدل أن نسيّرها، و تحكمنا بدل أن نحكمها. و بأن نستخدم ما أنعم الله به علينا  للخير و في الخير، لا للتفاخر و الاختيال و التبختر و التكبّر على خلقه، و بأن نُساهم في جعل هذه الدنيا مكان أفضل بوجودنا و أسهل لنا و لغيرنا، لا بأن نجعلها حكرا لنا و أداة كسر و تهميش للضعفاء من حولنا


نعيم العبد في هذه الدنيا كثير، و هو مما يستدعي شكر الله عليه لا الجحود و التكبر و ظلم العباد؛ فالصحة، و العافية، و المال، و الأولاد، و الجمال، و القوة البدنية، و الجاه، و المنصب، و السلطان، و الحسب، و النسب، و الأمان و غيرها من النعم، هي نعيم دنيوي يزيّن حياتنا، و يزيد و يدوم بالشكر لمعطيه، "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (الأعراف). هو نعمة إن استُخدم في الطاعة، و نقمة إن استُخدم في المعصية


لا بل قد يكون هذا النعيم سبب لدخول الإنسان أعلى درجات الجنة إن أحسن استخدامه. لكن للأسف الكثير منا ينسى أن اختبار النعيم و الرخاء لا يقلّ صعوبة عن اختبار الفقر و العوز، اختبار فيه لكل نعمة مهما صغرت سؤال: ماذا فعلت بها أيها الإنسان؟ ماذا فعلت بكل نعمة أنعمتها عليك مهما كانت صغيرة في نظرك؟

"ثم لتُسألنَّ يومئذٍ عن النعيم" (سورة التكاثر)


لكن للأسف الكثير منا ينسى أن اختبار النعيم و الرخاء لا يقلّ صعوبة عن اختبار الفقر و العوز

جميعنا في ابتلاء في هذه الدنيا، و جميعنا سيُحاسب على ابتلائه، فلنخفّف عن بعضنا وطأة هذا الابتلاء هنا علّ ذلك ييسّر لنا الحساب هناك، و لنساعد بعضنا بما منّ الله به علينا من النعم و فضّل به بعضنا على بعض، سواءا كانت هذه النعمة مال، أو قوة، أو جاه، أو سلطان، أو فكر، أو علم، أو كلمة طيبة... فالخير و الغنى ابتلاء و اختبار لمن يملكهما، تماما كما هو الفقر، و العوز، و الاحتياج


يقول الحسن البصري : " ليس الزهد أن لا تملك شيئا، إنما الزهد أن لا يملكك شيء"


و قد أبدع الشاعر أبو العلاء المعري في وصفه لحقيقة هذه الدنيا حين قال:


صاحِ، هذي قُبورُنا تملأُ الرُّحبَ

فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ؟


خفّفِ الوَطءَ، ما أظنُّ أَديمَ الـ

أرضِ إلا من هذهِ الأجسادِ


وقبيحٌ بنا، وإن قَدُم العهدُ،

هوانُ الآباءِ والأجدادِ


سِرْ، إن استطعتَ في الهواءِ رُوَيدًا،

لا اختيالًا على رُفاتِ العبادِ


رُبَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا،

ضاحكٍ من تزاحمِ الأضدادِ


ودفينٍ على بقايا دفينٍ،

في طويلِ الأزمانِ والآبادِ



و في الختام أقول لنفسي، ثم أقول لك: ابقَ زاهدًا.. لو جاءتك النعم استخدمتها في الخير، و لو ذهبت لم تكسرك، فما الحياة الدنيا إلا ممرّ للتراب، و لا شيء يستحق التعلّق فكلنا...  إلى زوال!


فما الحياة الدنيا إلا ممرّ للتراب، و لا شيء يستحق التعلّق فكلنا...  إلى زوال!

و السلام


 
 
 

Comments


Subscribe Form

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • Instagram

©2020 by Haya Alaqeel. Proudly created with Wix.com

bottom of page