top of page

قانون الاستحقاق.. بضاعة(اللايف كوتشينچ) المغشوشة


بقلم:

هيا العقيل



في مكان ما في زاوية البيت أجلس قرب النافذة بين الحين و الآخر أتابع مستجدات العالم من حولي على منصات التواصل الاجتماعي، منها ما هو ذو قيمة و منها ما هو سخيف لدرجة لا تصدّق، و لا أعلم إن كان هذا العالم الذي نتابعه من وراء شاشاتنا حقيقي أم هو عالم وهمي نحاول أن نقنع أنفسنا بأنه حقيقي. و ما ألبث أن أتقافز من خبر إلى خبر، و من صورة إلى أخرى، و من مقطع ڤيديو إلى آخر في مواضيع مختلفة، لكن ما استوقفني هذه المرة؛ لا بل و بصراحة كان قد استوقفني مرارا من قبل، لكن هذه المرة استوقفني أكثر من اللازم لأنه استفزني أكثر من اللازم، كان الكمَّ الغير قليل من أولئك الذين يُطلقون على أنفسهم (مدربون حياة  life coaches) يروجون لقانون اسمه.. الاستحقاق


يقولون لك أنك تستحق الأفضل من كل شيء، و أن تأخُّر الخير في حياتك سببه أنت لعدم تطبيقك لقانون الاستحقاق، و أن عليك أن تمارس هذا القانون حتى تتحقق أمنياتك، هذا القانون الذي يُشعركَ المروِّجون له لوهلة أنك أمام فانوس علاء الدين السحري، هذا الذي أصبح في أيامنا متجسّدا على هيئة (مدرّب حياة) يعلّمك قانون الاستحقاق عبر منصات للتواصل الاجتماعي


ثم تجدهم يجودون عليك من وحي تجاربهم أو من وحي خيالهم - للأمانة لا أدري - بأمثلة عن فاعلية هذا القانون بجلب كل ما هو ورديّ و جميل؛ فإحداهن حصلت على زوج رائع، و وسيم، و غني، و ذو حسب و نسب بسبب رفعها للاستحقاق، و أخرى وصلت لمنصب رفيع بسبب الاستحقاق الرفيع أيضا، و آخر حصل على المال الكثير بسبب الاستحقاق الكثير.. أيضا


ثم يسوقون لك على الجانب الآخر أمثلة عن النتائج الوخيمة للاستحقاق المتدني لدى الفرد؛ فتجد تلك التي تقول بأنها قد فوّتت الكثير من الفرص في حياتها بسبب تدني الاستحقاق الذي كانت تعاني منه، ثم يطلّ علينا آخر ليقول لنا أنّ كل ما أنت عليه الآن هو الذي تستحقه سواءا كان خير أم شر، و لكَ أن تتخيّل أن كل ما أنت عليه من أمراض، و مشاكل، و زوجة نكدية، و زوج عصبي، و ابن متمرّد، و وطن مدمَّر، و بيت مهدَّم، و..و.. و.. و ... سببه الاستحقاق المتدني من جانبك!


و أخرى تحذّرك - بلهجة شديدة- من أن تقاوم قانون الاستحقاق، هذا القانون الكوني الذي سيشقلب حياتك إن أنت اتبعته..

أنا أستحق الأفضل

أستحق الأجمل

أستحق الأغنى

أستحق الأقوى

أستحق و أستحق و أستحق....الخ


و لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:

أنا أستحق الأفضل بناءا على ماذا؟

و بناءا على أي معطيات قدّمتُها من جانبي لأستحق الأفضل؟

هل هو بناءا على مهاراتي؟ مواهبي؟ جهدي؟ تعبي؟ تجاربي؟ خبرتي؟ كفاحي؟وقتي؟

بناءا على ماذا أستحق الأفضل؟


هل أستحق الأفضل لأن شكلي أجمل ؟

هل أستحق الأفضل لأني من عائلة أفضل؟

من قبيلة أفضل؟

من بلد أفضل؟

من عِرق أفضل؟

من لون أفضل؟

من ماذا ؟


أم أن مجرّد كوني موجود في هذه الحياة فهذا بحدّ ذاته يخوّلني لأن أستحق الأفضل لكل ما هو موجود فيها؟


إن كنتُ أعتقد أني أستحق الأفضل بناءا على ما ذُكر أعلاه فعندها ما هو الفرق بيني و بين الإنسان النرجسي؟

لأن من يرى بأحقيته بالأفضل فقط بسبب ما تمّ ذكره فهو إنسان نرجسي، أو  على الأقل فيه من صفات الشخصية النرجسية


بعضنا يردّد ما يسمع بلا وعي، و يتبنّى الأفكار المستوردة من المجتمعات التي تشجّع على الفردية و التمركز حول الذات و السعي المفرط لتلبية احتياجاتها و إسعادها بغضّ النظر عن إذا ما كان هذا الاهتمام على حساب الآخرين أم لا، دون أدنى تحليل أو تمحيص أو إدراك و فهم لما تحوي  بين طياتها من معاني، و ما ينتج عنها من سلوكيات، تلك التي تُسقط عن الإنسان مسؤوليته اتجاه الآخر، و كأننا نحن الأساس و المركز، و ما حولنا يدور .. حولنا ! 


وجودنا في الحياة لا يجعلنا مستحقّين تلقائيا للأفضل فيها، وجودنا في الحياة هو تكليف، ينتج عنه بأن لنا حقوق بلا شك كما أنّ علينا واجبات، إذ إن كلمة استحقاق يدور في فلكها كلمة حق، و مَن له حق فعليه واجب أيضا، و هذا ما عبّر عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي حين قال :( ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، و هذه الوسائل لا يمكن أن تكون إلا تعبيرا عن واجباته)، و قال أيضا :(فالحقّ ليس هدية تُعطى ولا غنيمة تُغتصب وإنّما هو نتيجة حتميّة للقيام بالواجب فهما متلازمان)


إنّ رفعنا لاستحقاقنا و لو بلغ عنان السماء لن يوصلنا لشيء ما لم يرافقه الجهد و العمل، فحتى الجنّة لا يدخلها إلا من عمل و سعى و جاهد النفس، ثم بعد ذلك طمع برحمة الله عزوجل أن يُدخله إياها


هناك فرق كبير بين الاستحقاق و الثقة بالنفس، فالاستحقاق الذي يتكلمون عنه يختلف عن الثقة بالنفس تلك التي نسعى لامتلاكها و تحسينها باستمرار. الثقة بالنفس تأتي من امتلاك المعرفة، و العمل الجاد للتقدُّم و التطوّر على جميع المستويات، و من الإنجازات في هذه الحياة سواءا كانت صغيرة أو كبيرة، و من أداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق، أما الاستحقاق فهو كلمة ما لبثت أن أصبحت مبتذلة جدا لكثرة استخدامها و عدم فهمها من قِبل مستخدميها، تُروِّج لخيالات تتحقق بمجرد زر -خيالي- تكبسه يُدعى الاستحقاق ترفع من خلاله ذبذباتك نحو استحقاق كل خير في هذه الدنيا بغض النظر عنك، و عن جوهرك، و عن أدائك، و عطائك، و قيامك بواجباتك


الاستحقاق بلا فهم و بلا معرفة و بلا جهد و بلا سعي ليس إلا غرور و تكبّر بهيئة ثقة، يهتزّ  و يتهاوى عند أول مطبّ في هذه الحياة، لأنه بلا أساس صحيح يقوم عليه، أما الثقة قد تنخفض و قد ترتفع و قد تتزعزع نعم، لكنها لا تُدمَّر بسهولة إذا كانت قائمة على أسس صحيحة


لا أحد ينكر حقيقة أنّ الإنسان مكرّم (و لقد كرّمنا بني آدم) و لكن بعض هؤلاء البني آدم أيضا هُم كالأنعام أو أضلّ سبيلا  (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) سورة الأعراف


فكم خُربت بيوت انساقت خلف مثل هذه الشعارات بلا تمحيص و لا تدقيق، فقال الزوج أنا أستحق الافضل، و قالت الزوجة أنا أستحق الأفضل، و قال الأبناء نحن نستحق الأفضل، و ندم كل منهم على ما فات من وقت معا، و كأن كل ما حدث في حياتهم من ألم كان قد حدث لأنها أو لأنه أو لأنهم كانوا لا يراعون قواعد الاستحقاق، و لم يعلموا أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك و ما أخطأك لم يكن ليُصيبك....


دخلت النفوس في دوّامة أني لو فعلت كذا لكان كذا، و لو أنّي قدّرت نفسي بشكل كافٍ لاستحققت أفضل بكثير مما فيه أنا، و أني لو قدّرت جمالي لاستحققت كذا، فيبدأ الإنسان بلوم نفسه ثم يقوم بتغيير نفسه المفاجئ و محيطه، ثم دون أن يشعر يدمّر نفسه و في كثير من الأحيان من حوله، فيسحقه الاستحقاق الذي في غير مكانه..سحقا


ألَم يكن الاستحقاق المرتفع الذي كان في غير مكانه هو من أخرج إبليس من الجنة؟ (قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين) سورة الأعراف، فافترض أنه يستحق الأفضل فقط لكونه -من وجهة نظره - من أصل أفضل، فكان جزاؤه أن لُعن و طرد


و قارون ذو الكنوز، و القوة، و الجاه، و المنصب الذي قال (قال إنما أوتيته على علم عندي..) سورة القصص، في لمحة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره، و لم يجد من ينصره من دون الله، ولم ينفعه جاهه، و لا ماله، و لا حسبه، و لا نسبه، و لا حتى استحقاقه المرتفع!


و صاحب الجنتين الذي نَسب فضل ملكه و حدائقه لنفسه، و اعتبر أنه يستحق الأفضل ليس فقط في الدنيا لا بل و في الآخرة أيضا(و كان له ثمر فقال لصاحبه و هو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعزّ نفرا..) سورة الكهف، ذهبت كلها و كأنها لم تكن، و لم تدوم له النعم بسبب استحقاقه المرتفع! (و أُحيط بثمره و  أصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها و هي خاوية على عروشها...) سورة الكهف


ما علَّمنا اياه ديننا هو قانون أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم....) سورة الرعد، و (و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أنّ سعيه سوف يُرى..) سورة النجم، و ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) سورة التوبة


ثم إن الدين يشجعنا على التكافل و التعاون لأهمية ذلك في النهوض بالأمة و تقوية المجتمع، بدلا من المركزية و الفردية، فأخبرنا و علّمنا رسولنا الكريم  أنّ: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" و ليس أن ننفخ (الأنا) حتى تنفجر فتُدمِّر نفسها و مَن حولها، فمتى ما حلّت (الأنا) فالنتيجة الطبيعية عندها هو تهاوي المجتمع و انحداره، فالمجتمعات ينبغي أن تُبنى على التعاون و التكافل و التآخي، لا على النديّة و الفردية و (الأنا)


كفانا استهتارا و استخفافا بعقولنا و عقول من حولنا، كفانا جهلا و انصياعا و ترديدا لكل ما يضخّه الآخر في عقولنا. لا أحد ينكر أن التأثير على عقول البشر من حولنا لهوَ شيء رائع و عظيم، لكن ليكن هذا التأثير حقيقي و منطقي و واقعي يدفع بعجلة التقدم و التطوّر للأمام، و ليس كلام فقط نحفّز به من حولنا ليتمركزوا حول أنفسهم مطالبين بحقوقهم غير مبالين بواجباتهم، ثم بعد ذلك نتركهم في منتصف الطريق لأنَّ من أخذْنا بنصيحته هو نفسه لا يعلم نهاية هذا الطريق


و لننتبه ممن نأخذ النصيحة، هل هي من شخص ذو علم و معرفة و تجربة؟ أم هي من شخص يملأ جيوبه من سذاجتنا؟


هل هي من النكات التي ستُطلق على جيلنا الحالي بأنه كان قد فهم الحياة لدرجة أن أصبح فيه الكثير من البشر (مدربون حياة) يروّجون للبشر أنهم يستحقون كل ما هو أفضل بلا مقابل، أم أنها ستكون الحياة هي من ستلفظنا لأنها سترفع هي الأخرى من استحقاقها  لتجد بشرا أفضل منا ليعيشوا فيها، بشر  يعرفون معنى الواجب قبل الحق فتنمو و تزدهر بأعمالهم و منجزاتهم؟


و سأختم بما قاله المفكر الجزائري مالك بن نبي:


(  ومع ذلك فينبغي ألاّ يغيب عن نظرنا أنّ  "الواجب" يجب أن يتفوّق على “الحقّ” في تطوّر صاعد، إذ يتحتّم أن يكون لدينا دائما محصول وافر. أو بلغة الاقتصاد السياسي “فائض قيمة” هذا “الواجب الفائض” هو أمارة التقدّم الخلقي والمادي في كلّ مجتمع يشقّ طريقه إلى المجد. وبناء على ذلك يمكننا القول بأنّ كلّ سياسة تقوم على طلب “الحقوق” ليست إلاّ ضرْبا من الهرج والفوضى. والحقّ أنّ العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تُفسّر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصوّرها منفصلة عن الواجب وهو يُعدّ في الواقع “أوّل عمل قام به الإنسان في التاريخ” .... لقد غاب عن الأذهان أن الحق ملازم للواجب، و أنّ الشعب هو الذي يخلق ميثاقه و نظامه الاجتماعي و السياسي الجديد عندما يغيّر ما في نفسه)


و أضاف ( إنها لشرعة نفسك: غيّر نفسك، تغيّر التاريخ!)


و السلام ..

 
 
 

留言


Subscribe Form

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • Instagram

©2020 by Haya Alaqeel. Proudly created with Wix.com

bottom of page