بقلم : هيا العقيل
يصادف الإنسان في حياته الكثير من البشر، ألوانا و أشكالا و أصولا و جذورا و بيئات مختلفة، بعضها مختلف لحدّ معقول، و بعضها مختلف لحدّ كبير يُخيّل للشخص لوهلة أنه يفوق الخيال
و من الشخصيات الرائجة و في نفس الوقت الغريبة التي بات الإنسان يصادفها كثيرا في أيامنا هذه ألا و هي الشخصية الاستغلالية المكتسية بهيئة امرأة أو رجل
بعضهم من نفهم الكثير عنه و نحيط بجوانب شخصيته و الأسباب الكامنة وراء هذا النموذج الاستغلالي - إلى حدّ ما طبعا- و بعضهم من نشعر أمامه بالعجز بعد محاولاتنا الجادة و المتجدّدة دوما لفهمه، فيستعصي علينا بعد كل تلك الجهود المبذولة في سبيل ذلك فهمه، فنرفع عندها رايتنا البيضاء إعلانا منا عن استسلامنا و إقرارنا و اعترافنا بهذا العجز الفادح
فحين تكون الصفة الرئيسية في الشخص الذي أمامك و الذي قد تضطرك الظروف مجبرا لا مختارا في كثير من الأحيان للتعامل معه هي الاستغلال و لا شيء غيره، فإنه يصعب عليك تجاوزها و مقاومة رغبتك العارمة للوقوف على الأسباب التي تقف خلفها، خلف هذه الصفة الواضحة فيه كوضوح الشمس في رابعة النهار، خاصة لو كانت استغلاليته قد اكتسحتك و اكتسحت مساحتك الخاصة دون أدنى شعور بالذنب في ذلك من طرفه
فتُنحّي كل أشغالك و انشغالاتك و قوائم أعمالك جانبا لبرهة أو حتى برهات، و تسرح بخيالك و خبراتك المكوّمة في صندوق ذاكرتك نابشا فيها و باحثا عن كل ما من شأنه مساعدتك في تحليل هذه الشخصية و فهمها و كيفية التعامل معها، طبعا إن رغبت في ذلك، أو إن اضطررت لذلك دون رغبة، وينتابك الشك و أنت سارح في خيالك الخصب أن تكون أنت كذلك مع من حولك من البشر دون وعي و إدراك من جانبك، فتحاول حينها بدايةً أن تبرهن لنفسك الفوضوية أنك بريء من جميع تلك الصفات الملتصقة بذاك - الشخص الاستغلالي - و بالأدلة والبراهين أيضا
ثم تجد بعد أن عقدت النية على البدء في فهمها و تحليلها بأن عقلك قد بدأ عمله و استهلّه بتعريف ما تواجهه، طبعا حسب خبرته و معلوماته المتواضعة في هذا الحقل إذ لا تعتقد أن عقلك خبير في تحليل الشخصيات فهو ما زال في طور التعلُّم، فيقول : إن الشخص الاستغلالي بدايةً هو إنسان مضطرب، يرى في البشر فرص ملقاة في بقاع شتّى لتحقيق رغباته، و الوصول إلى غاياته، و يعيش حالة التلذُّذ و التمرُّغ في معتقداته بأنه يستحق الأفضل من كل شيء و في كل شيء، فهو يعتقد أنه إنسان مهم في حياة من يقابلهم، و أنهم بالإضافة إلى ذلك كله لا يستطيعون التخلي عنه!
هو إنسان فقد جماله (إن وجد) كل يوم حتى يغدو بلا جمال، لا بل على العكس يزداد شناعة و قبحا، مغلِّفاً المكان في حضوره سلبية تغشى من هو في محيطه مرغَما و ليس مختارا، دون أن يدري من يجالسه السبب المباشر في هذا الجو المحيط الذي يتسمّ بعدم الراحة
يعتقد هذا الإنسان و يتذكر أن عليك واجبات له - و في أحيان كثيرة حتى دون أن يكون بينكما علاقة تُذكر على أي صعيد من الأصعدة في الماضي - و ينسى أن عليه حقوق في المقابل، كما و يصعب على أمثاله التعاطف (الحقيقي) مع الآخرين، و ينعدم لديه - إضافة لما سبق- الشعور بالذنب أو الخجل، إذ ينطبق عليه ما قاله الحبيب المصطفى : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت )
هو ذاك الذي ينساك في الفرح و يتذكّرك في الترح، يتذكّرك إن هو وقع و لا يلتفت لك بل و قد يرمي بك عرض الحائط متى ما سنحت له الفرصة و وجد من يمتصه غيرك حتى آخر رمق .. و هذا كله يحدث - إن لم تتنبّه لذلك - بعد أن يكون قد امتصّ من طاقتك و مالك و عواطفك و أي شيء قد يستفيد فيه منك لصالحه و غاياته، ثم ينتقل بعدها (للضحية) التالية علّه يجد فيها وجبة أدسم منك في كل شيء، ثم يرميه هو الآخر أو قد يضعه على الرفّ ليعود إليه إذا ما حصل و احتاجه في المستقبل
هو ذاك الذي يحبّ نفسه لدرجة قد تصل لما بعد الأنانية بأميال، و على الأرجح فإنّ لديه أمراض من الطفولة نفسية، ما لبثت أن أحكمت إغلاقها عليه محوّلةً إياها لعُقَد، كلما مرّت الأيام بات من الصعب فكّها و التخلص منها
قد يكون على علاقة معقدة مع الجنس الآخر في حياته، سواءا كان الأب أو الأم، ما جعل منه متغطرسا أو ذليلا في كل ما يمتّ للرجل أوالمرأة بصلة،
فهو إما متوسّل للحب
أو متلذذ في تعذيب من يحب
أو مرتزقة لكل من له مصلحة عنده
أو مضطرب لا يدري كيف تُبنى الجسور مع ذاك الجنس الآخر
و ما أشنع الرجل الاستغلالي الذي يهين رجولته بمذلة الاستغلال، ذلك أن الاستغلال للرجل هو كالأغلال التي تقيّد كرامته و رجولته الحقيقية و ليست فحولته الحيوانية التي يعتقد أنها رجولة. و ما أقبحها من صفة في المرأة التي لا يزيدها الاستغلال سوى قبحا و تنفيرا فتُجفّف جمالها و نضارة روحها
و عليه فالشخص الاستغلالي لغز يصعب حلّه، لأنه معقّد و متداخل و لا منطق فيه..
لغز ليس كباقي الألغاز، ذلك أنه كلما ازداد غموضا ازداد تنفيرا، و قد يصاحب هذا التنفير شعورا بالإشفاق للظروف التي قد يكون مرّ بها الشخص في حياته، و كلما اكتشفت جزءا منه فاجأتك مدخلاته الرديئة التي أدت أن تكون نتيجتها و ثمرتها هو شخصية هذا الكائن الاستغلالي الذي تتعامل معه، و شدّتك للأسفل أكثر و أكثر حتى ترفع الراية البيضاء معلنا أن الانسحاب هو الأفضل لك أنت في المقام الأول قبل أي أحد آخر
يرتدي بعض البشر الاستغلاليين نساءا كانوا أم رجالا قناع الذكاء و الدبلوماسية، و لا يدرون أنه بعد وقت قصير جدا يتضحّ لأي عاقل رزقه الله العقل السليم نواياهم الدفينة التي يعتقدون -بذكائهم- أن لا أحد يراها و لا حتى هم أنفسهم ، لكن هذه النوايا أحيانا - و ليس دائما - تكون أعلى صوتا و أوضح من أن تُهمل فلا يلتفت لها أحد
و تراك أثناء محاولاتك الجادة في فهم شخصية الاستغلالي تؤكد و تردد في عقلك لا شعوريا قول المتنبي :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
و إن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
فإن أنت أكرمته شعرتَ بالاستغفال، و إن أنت اقتربت منه شعرت بأنك مغارة علي بابا المليئة بالكنوز و الذي يريد هو بدوره تكديس ما استطاع منها قبل أن تتضح نواياه لك فتلفظه، أو يتضح غباؤك فيلفظك هو أو هي
ثم إنه لا يكل و لا يملّ و يتلاعب قدر استطاعته بالمواقف ليشعرك بأنه حسن النوايا و أن ما تشتّمه من استغلالية تفوح منه هو بسبب خيالاتك و أفكارك التي تتولد في عقلك بلا أدلة، و قد يجرّك لتصديقه بهذه الألاعيب التي تخدمه و مصالحه في المقام الأول، و يشوّه ثقتك بنفسك إن لم تكن متيقظا لأساليبه الملتوية
علمتني الحياة القصيرة التي عشتها أنه في بعض الأحيان إعلان الهزيمة و الانسحاب بحدّ ذاته فوز عظيم، فأن ترفع الراية البيضاء وتتوقف عن الاستمرار في محاولة فهمك لأنواع معينة من البشر و الانسحاب بهدوء هو أفضل هدية تقدمها لصحتك العقلية و النفسية والجسدية
علمتني الحياة القصيرة التي عشتها أنه في بعض الأحيان إعلان الهزيمة و الانسحاب بحدّ ذاته فوز عظيم، فأن ترفع الراية البيضاء وتتوقف عن الاستمرار في محاولة فهمك لأنواع معينة من البشر و الانسحاب بهدوء هو أفضل هدية تقدمها لصحتك العقلية و النفسية والجسدية
عندها تكون قد اشتريت راحة بالك التي لا تُقدّر بثمن، و احترمت عقلك و حفظت وقتك المحدود في هذه الحياة لاكتشاف ما هو أهم، و للتعرّف على قلوب طيبة نقية تفتح الآفاق أمامك و ترتقي و تسمو بك للأفضل بدلا من أولئك الذين لا يأخذون بيدك سوى للأسفل و لا يسحبونك سوى للخلف
و كما قال دوستويفسكي :
لا يليق بالعلاقات المسمومة إلا البتر.. مجاملة الأفاعي جريمة
نعم هي جريمة.. جريمة في حق نفسك و في حق وقتك و في حق جهدك و في حق أولئك الذين يهتمون لأمرك ممن هم حولك .. أولئك الذين يستحقون منك أن تكون معهم بكامل طاقتك و إيجابيتك و هدوئك و لست مستَنزف الطاقة مع .. نفايات البشر
و السلام
Comments