بقلم : هيا العقيل
أعجب من النفس البشرية، تنام فتعتقد بأنها من أهل الله و خاصّته ثم ما إن تستيقظ و تخوض الحياة بحلوها و مرّها و تَعبر ما هو مقدَّر لها أن تعبر خلال يومها فما ان يأتي آخر النهار عليها حتى تشعر بأنها مخلوق دونيّ ارتكب من الأخطاء ما لا يعدّ و لا يحصى، فتنقلب خلال سويعات من حال إلى حال، مختلف تماما عن ذاك الذي كانت عليه في الماضي القريب.. القريب جدا
ثم تصول هذه النفس و تجول، و من عالم إلى عالم تتنقّل، من عالم تراه إلى عالم لا تراه، و لها في كلّ حالٍ حال، أحيانا تستطيع الإمساك بها
و السيطرة عليها فتصبح سيّدها و مرشدها، و أحيانا أخرى تتفلّت منك هنا و هناك تسيّرك على هواها فتمسي عبدا تابعا لها و كأن لم يكن لك بالأمس عليها من سلطان، فتجرّدك من قدرتك على أن يكون لك أدنى خيار
النفس البشرية..
ذاك الوجود الإلهي المغلّف بالجسد الإنسان الترابيّ تؤرق راحتي الجسدية و العقلية الإنسانية الضعيفة، تجعلني رفقتها أتوق دوما ليوم لامكان فيه لهذا الصراع و لهذه التساؤلات التي لا تنتهي و تعصف بعقلي المتواضع كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه
هي معي و ليست معي ..
هي رفيقتي التي لا خيار لي في اختيارها كما أختار باقي رفيقاتي، و هي شريكتي في الخير و الشر نصحب بعضنا بعضا أينما حللنا و ارتحلنا دون أن يترك أحدنا للآخر حرية الاختيار ، أو أن يغادر إن لم يعجبه الدرب الذي اختاره شريكه على الأقل
ثم إنه لتهبّ عليّ أسئلة لا تنتهي إلا إن أنا وصدت الباب بوجهها بقوة و دون أدنى لطافة.. فإن حصل و فُتح هذا الباب بطريقة ما انهمرت تلك الأسئلة منه انهمارا دون توقف
من أنا؟
لماذا أنا هنا؟
أين سأذهب؟
و كيف سأذهب؟
و ما هو الموت؟
و كيف سأشعر حين أفارق جسدي الذي رافقني في رحلتي الأرضية؟
و هل سأستعير جسدا آخرا أنتقل به إلى مكان آخر غير معلوم بالنسبة لي تماما، كما هي الكثير من الأشياء في حياتي الآن لا أعرف لها سببا؟
و.. و.. و.. و.. و
كل سؤال يفتح الباب على مئة سؤال بعده إن لم يكن أكثر
مع هذه الأسئلة يعيش بعضنا في هذه الحياة الدنيا..
و يعيش جميعنا و ليس بعضنا هذه الحياة الدنيا، نعيشها رغما عنا فإن رضينا اطمئنت نفوسنا و بقينا، و إن سخطنا ضاقت نفوسنا وبقينا أيضا، نبحث عن حلول لما يواجهنا في هذه الحياة، لكننا ننسى أو نتناسى عمدا ذاك السؤال الملحّ، من نحن و ماذا نفعل هنا؟ و إن كنا نفعل ما نحن مأمورون به فهل حقا نفعله صوابا؟ و هل نحن نعيش بخطة واضحة لنصل لهدف واضح ؟ أم أننا فقط نعيش لأنه لا بد لنا أننعيش، و نسعى لأن لا بد لنا أن نتحرك و لا نبقى في مكاننا، و نتكاثر لأن هذا يعيننا على البقاء لمدة أطول و بنوعية أفضل (كما نعتقد)
أحيانا أنظر حولي فأشعر أن عقلي يتقافز من مكان إلى آخر دون توقف، و يرتحل و يسير و يبحر و يرسي و يطير و يحلق، ثم يعود و كأنه ما حلّق و لا ابتعد و لا اعتبر
هل هذه الأسئلة تقود للجنون إن لم نسيطر عليها، إذ أن لها قدرة عجيبة في جعلك تذهب و لا تعود
تذهب لعوالم مختلفة و تفكر بتفاصيل مندثرة و تبحر في قيعان تجرّأ على الوصول إليها عدد أقل من عدد أصابع اليد الواحدة من أولئك الذين هم حولك إن وجدوا من الأساس
تصبح غريبا و أنت مع البشر،
فما عاد الكثير يفهمك لأنك بتّ بعيدا بأفكارك و بكل ما يجول في عقلك و صدرك و خاطرك، فتشعر عندها و كأنك قد تجاوزت طبقات من الإدراك أبعد بكثير من تلك التي تركتهم عندها، أو قد لا يكون إدراك فقد يكون جنون وقعت فيه معتقدا أنك مختلف، و ما أنت سوى مجنون و مغرور بهيئة مفكّر، فالجنون أنواع و ليس نوعا واحدا
ثم كلما حاولت أخذهم معك ليكون معك شريك في هذه الرحلة العقلية(المجنونة) قالوا لك: لماذا نجازف و نذهب للمجهول؟ .. دعنا هنا فالمكان آمن و الأسئلة سهلة الحل و الوقت فيه متسع للهو و اللعب، فتلعب و تلهو معهم حتى تظهر بمظهر الإنسان (الطبيعي)، ثم لا تلبث أن تنطوي على نفسك بين جدران نفسك مغادرا إياهم و أنت برفقتهم
و تصبح بشوق كبير للقاء أولئك الذين يفهمونك دون عناء و يناقشونك دون إغلاق للأبواب في وجهك و وجه "بقجة" أسئلتك التي لا تفارقها ولا تفارقك
تصبح إنسان تعيش بين معظم البشر محاولا أن تغلق باب تساؤلاتك كلما قابلتهم، تحاول أن تلملم أفكارك و تساؤلاتك و تحشوها حشوا بعقلك قبل أن يراها أحد تتفلت من زواياها و تخرج، و تغلق عليها بابا محكما لا يُفتح إلا بمفاتيحك الخاصة كتلك التي لا تأمن أن تخبئها سوى في جيبك أو بحبل حول عنقك
الحياة غامضة و ليست كما كنا نعتقد حين كنا صغارا أو حتى شبابا، حين كانت سهلة بلا تعقيدات، أكبر همّ فيها بعد أن كبرنا اكتشفنا أنه كان لا شيء يُذكر بالنسبة للهموم و التحديات على هذه الأرض، ذلك أنك حين تدرك الحياة مع وجود الآخرة تصبح الحياة مليئة كل يوم بالتساؤلات، تساؤلات لا تنتهي، عن المصير و عن المصدر و عن النفس، أين كانت؟ و أين هي الآن ؟و كيف ستذهب؟ و أين ستذهب ؟ و كيف ستحيا بعد أن تذهب و تقيم في مكان آخر ؟
ثم ينتابك الرعب من الحساب..
هذا الذي ننساه أو نتناساه لأنه يلجمنا عن ما تهوى قلوبنا، فإن كنا بشريين معلّقة قلوبنا بالأرض ألقيناه خلف ظهورنا و دسنا عليه حتى لا ينغّص علينا لحظاتنا (الممتعة)، و إن حاول الاستيقاظ حاولنا تنويمه مرة أخرى بكل ما نملك و بشتى الطرق. و إن كنا بشريين معلّقة قلوبنا بالسماء فنحاول عندها أن نضعه نصب أعيننا قدر استطاعتنا، فترانا عندها نتقدّم تارة للأمام نحو الخير و نتأخّر تارة للخلف الذي يشدّنا نحو الشر، محاولين جاهدين أن تكون خطواتنا التي تفصلنا عن الخير أقل من تلك التي تفصلنا عن الشر
الحساب هذا الموقف المتعب المنهِك المستنزِف لطاقة الإنسان على جميع المستويات لا بدّ و أن يكون له مكافأة عظيمة للقيام به و الصبر على كل شيء لأجله، و كلما ازداد عسرا في هذه الدنيا ازداد انفراجا في تلك التي لم تأتِ بعد، أولم يقل عزوجل في كتابه العزيز :
(إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)
أن تحاسب نفسك هنا حتى يخفَّف عنها الحساب هناك..
أن تغضّ بصرك هنا و تنتظر الجزاء هناك ..
أن تلجم شهوتك هنا حتى تشبعها هناك ..
أن تُحرم هنا حتى تُعطى هناك ..
أن تمرض هنا و تتعافى هناك ..
أن تكظم غيظك هنا و تتنفّسه هناك ..
أن تُبتلى هنا و تنعم هناك ..
أن تتقِّ الله هنا ثم توفّى أعلى الدرجات هناك ..
و من ذا الذي يوفّاها إلا ذو حظ عظيم، و أصحاب الحظ العظيم الذين سيُنقلون من هذه الدار لتلك الدار قليلون.. قليلون جدا
و لا أحد يدري من يكون له نصيب من هذا الحظ العظيم، فقد علّمتنا الحياة و ما زالت تعلّمنا دروسا قاسية و أولها أن الظاهر لا يعكس بالضرورة الباطن، و أن الفاسق قد يمسي مؤمن تائب طاهر، و أن المؤمن الطاهر قد ينقلب كافر جاحد
و علينا أن لا ننسى أن لا يغترّ الإنسان كثيرا بصلاحه، فقد كان إبليس صالحا قبل أن يعتريه الكبر و الغرور و يخرج من الجنة. فليس هناك ميزان تقاس به مثل هذه الأمور لأن الأعمال بالنيات، و الأعمال تُرى أما النيات فهي حبيسة الصدور لا يعلمها سوى علّام الغيوب.
قد يعتقد الإنسان أنه قوي، قوي في دينه، في أخلاقه، في جسده، في عقله، ثم في لحظة يستشعر ضعفه و ضعف قلبه و ضعف إيمانه لولا فضل الله الذي يمنّ به على من يشاء من عباده بالثبات و الاستمرار على هذا الثبات
فمهما بلغ المرء من القوة و الظاهر الحسن الجميل فدوما هناك في داخله صراعات لا يعلم بها إلا هو و خالقه، و قد قال تشيخوف ذات مرة :
(المرء يخوض صراعا مع نفسه كل يوم، مع ألف همّ، وألف حزن، ومائة ضعف، ليخرج أمامك بكل هذا الثبات)
فلنطلب العون من الله، فنحن أضعف مما نتخيل، و حياتنا هشة أكثر مما نتصوّر لولا فضل الله علينا و رأفته بنا و بحالنا و عونه الذي لا يتوقف لمن يحاول جاهدا للأفضل في هذه الحياة الدنيا و إلا لكنّا رمادا متناثرا على هيئة بشر، يتلاشى مع أول هبوب للرياح ذاهبا بلا عودة
لكننا لسنا كذلك ، نحن مخلوقات مكرّمة شئنا أم أبينا، من أصغرنا لأكبرنا، و من أفقرنا لأغنانا، و من أضعفنا لأقوانا، رغما عنا إنّا مكرمون، و كيف لا و نحن الذين صُنعنا بيد الله، و نُفخ فينا من روح الله، و سجدت لنا الملائكة، و أُرسل لنا الأنبياء و الرسل، و نزلت لنا الكتب السماوية، و فُضّلنا على كثير ممن خلق الله، و سُخّر لنا ما في السماوات و مافي الأرض، و كُرّمنا بالعقل..
فاللهم اجعلنا أهلا لهذه الروح العظيمة التي هي فينا منك، التي ترقى بنا رغما عنا .. و اجعلنا من الآمنين و المطمئنين الذين قلتَ عنهم:
(و من تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون)
الحياة لم تُخلق عبثا و علينا أن نذكّر أنفسنا قدر استطاعتنا أن لا نحياها بعبثية و إلا فإن النتيجة ستكون الضياع هنا و هناك.. و لنرحم أنفسنا و لننهض بها، و لنصحّح كلما أخطئنا قدر استطاعتنا، فمن يعلم فقد ترقى أرواحنا لبارئها و هي مكلّلة بمحاولة السعي للأفضل وبنيّة تعديل هذه النفس بما يُرضي خالقها، فتكون عندها ممن تستظل برحمة الرحيم و تفوز بالآخرة بكرمه و رحمته بها و بسعيها لا بعملها وحسناتها
يقول الدكتور مصطفى محمود:
لا عبثية ولا عبث.. وما نرى حولنا من تداول الأحوال على الناس من فقر إلى غنى إلى مرض إلى عزّ إلى ذلّ إلى حوادث مفاجئة إلى مصائب إلى كوارث إلى نجاح إلى فشل , ليست أمورا عبثية ولا مصادفات عشوائية ، إنما هي ملابسات محكمة تدبير المدير الحكيم يريد أن يفض مکنون النفوس ويخرج مكتومها
(والله مخرج ما کنتم تکتمون )
و السلام ..
Comments