بقلم : هيا العقيل
قالت لي تغمرها نشوة الإنجاز و الابتسامة تعلو وجهها بأنها قد أفرغت مافي جعبتها و أنها قد جعلَته كما يقولون (علكة على كل لسان) :
اشتكيته لكل معارفه تقريبا، من العائلة، من الأصدقاء، في العمل، كل من عرفت أنه يعرفه تواصلتُ معه أو أرسلت له أُخبره بما فعله بي، صدقيني لم أنتهي بعد، سأجعل الفضيحة تلاحقه أينما حلّ و ارتحل، و سأكشف عن وجهه القناع الذي يحاول أن يخدع الناس به.
قلت لها: ممتاز
ثم ارتشفتُ رشفة من كوب القهوة الذي أمامي،
و أردفتُ قائلة :
و ماذا بعد ذلك؟
نظرتْ إليّ نظرة من لا يريد سماع ما سيأتي بعد هذا السؤال
قلت لها: أعلم أنه قد لا يعجبك كلامي في كثير من الأحيان، لكن صدقيني صديقك من صدقك لا من صدّقك
أشاحت بوجهها عني لثوان قليلة تشغل عينيها بالنظر لتلك الطاولة التي بجانبنا لكنها سرعان ما عادت لتنظر لعينيّ قائلة: هاتِ ما عندك.. تفضلي يا سيدتي
تعوّدت على أسلوبها الطفولي في الاندفاع و الهجوم ثم التفكير بما أقول،
و إن لم يعجبها بدايةً ما أقول
تناولتْ قطعة من البسكويت من الطبق المزركش الذي أمامها، و سألتها بينما هي تمضغ ما تبقى منها:
و هل فكرتي أن تشتكيه لله بدلا من كل هؤلاء البشر ؟
صمتتْ لبرهة، ثم أجابتني باستخفاف :
بالله عليكِ ما هذا السؤال، بالطبع أدعي عليه دوما بعد كل صلاة
قلت لها: أن تشتكيه لله لا يعني بالضرورة أن تدعي عليه
ردّت قائلة: و ماذا يعني غير ذلك؟
قلت لها: أن تشتكي و تفرغي مافي جعبتك و ترفعي مشكلتك لصاحب الشأن و مغيِّر الأحوال فهذا بحدّ ذاته إنجاز يُريحك أنتِ في المقام الأول، فلا تشعرين بالرغبة بعدها لإن تشتكي لأحد غيره، خالقك و خالقه و خالق كل هؤلاء الناس هو الله، أنتِ تتركين الأساس الذي بيده الأمر و القرار و الذي يسمعك في جميع الأوقات، و تذهبين لبشر لا يغنون و لا يسمنون من جوع ( طبعا إلا ما ندر).
عندما قال نبي الله يعقوب عليه السلام (إنما أشكو بثي و حزني إلى الله) حين حلّت به مصيبة فقْد ولده فلذة كبده، لم تكن فقط بحثا عن المخرج
و الفرج، بل كانت لتفريغ ما يختلج في صدره من حزن و ألم لا يفهمه سوى خالق هذه النفس البشرية الضعيفة، فتضرعَ لله دون الإفصاح عن ألمه للبشر من حوله، ذلك أن بعض الألم يصعب فهمه و التعبير عنه حتى لأنفسنا
أكملتُ: صدقيني أفهم مدى الحزن و الجرح الذي تعانينه هذه الأيام، نحن حين نعاني نعتقد أن أحدا لم يعاني كما نعاني نحن، و حين نفقد أحدا نعتقد أن لا أحد فقد أحد غيرنا، و حين نفشل نعتقد أن الدنيا لم تُقفل بابها في وجه أحد كما فعلت معنا. و حتى حين ننجح نعتقد أن أحدا لم يذق طعم النجاح كما تذوقناه نحن، و كذلك الأمر حين نفرح نعتقد أن الدنيا قد اختارتنا و فضّلتنا على من هم حولنا لميزة فينا هي تعلم بوجودها فينا
هذه هي طبيعة النفس البشرية، تعتقد أنها مميزة سواءا في الأفراح أو في الأحزان، و هي في بحث دائم عمن يشاركها هذه الأحزان و الأفراح أيضا، لكن في كلتا الحالتين البشر لا يفيدون كوجهة نتجه إليها إن احتجنا لأي شيء، فهُم ليس بيدهم أساسا أي شيء، وجهتنا دوما يجب أن تكون له، في الفرح و الترح، و النجاح و الفشل، و القوة و الضعف، لمن إذا أراد شيئا قال له كُن فيكون، لمن يرزقنا بلا مبررات، و بلا مقدمات، و بلا مؤهلات، و بلا منطق، و بلا أسباب إن أراد
نعم أننا قد نرتاح حين نُفرغ مافي جعبتنا للبشر، لكنها على المدى البعيد هي راحة مؤقتة ما تلبث أن تترك فراغا، هذا الفراغ لا يملؤه سوى اللجوء لخالق الناس قبل كل الناس
نعم أننا قد نرتاح حين نُفرغ مافي جعبتنا للبشر، لكنها على المدى البعيد هي راحة مؤقتة ما تلبث أن تترك فراغا، هذا الفراغ لا يملؤه سوى اللجوء لخالق الناس قبل كل الناس
البشر الطيبون نعمة في حياتنا، و وجودهم يخفّف عنا وطأة الحياة بمصاعبها و تحدياتها التي نواجهها كل يوم، خاصة لو كانوا بشرا استثنائيين وهبتنا الحياة إياهم و وجدناهم بجانبنا وقت الشدة قبل وقت الرخاء، لكن صدقيني يبقى المصدر هو الأساس و الرجوع إليه في كل شيء و ليس فقط حين يموت أحدنا هو الأهم، فنقول (إنا لله و إنا إليه راجعون) نحن راجعون إليه في جميع أمورنا، صغيرها و كبيرها، هذا الرجوع هو سرّ القوة الحقيقية و العزّة و الكرامة لنا، بدلا من توسُّل التعاطف من أولئك الذين هم حولنا
قاطعتني: كفاكِ مثاليات و مواعظ أرجوك، هذا ليس وقته!
قلت لها: أيتها الساذجة أن تشتكي من ظلمك لله هو مثاليات و مواعظ؟ أن توجهي طاقتك لتسألي الله ما تريدين بدلا من أن تتوسلي التعاطف (السطحي) ممن حولك هو مثاليات؟ أن تسألي من بيده الأمر و تتركي عنك البشر الذين يسمعونك و يتسلون بقصتك أيام أو أشهر -في أفضل الأحوال- ذلك أن لكلّ منهم قصته و تحدياته التي هي أولى أن يهتمّ بها، فيسمعونك ثم ما يلبثون أن يملّون من ذلك كلما كررتي على مسامعهم شكواكِ، و تلجئي لمن يسمعك حتى لو كررتيها آلاف المرات و أكثر، هو مواعظ و مثاليات؟
ردّت محاولة أن تتماسك و محاوِلةً أيضا أن تخفي دمعة مصدرها القلب و مخرجها العين أبَت إلا أن تباغتها و تترقرق على وجنتها، تلك الدمعة التي تعرف وقتَ ضعفك أنها البداية لدمعات أخرى تحاول الإمساك بها رغما عنك حين تحاول إخفاء ضعفك لمن هم حولك، لكن بلا فائدة فهي تغدر بك بلحظة و تُعرّي ضعفك الذي تحاول جاهدا إخفاءه، فمسحَتها مباشرة حتى قبل أن تبرد :
و لكنه أمات قلبي بالذي فعله!
قلت لها : إن الله يحيي الأرض بعد موتها أفلا يحيي قلب عبده إذا ما انطفئ ( اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون )، و هو الجبّار يجبر خاطر عباده، صدِّقيني ليس كل موقف يستحق من مشاعرك، و جهدك، و وقتك، و صحتك ، و نوعية و جودة حياتك، و ليس كل موقف يستحق منك الوقوف و الفضول و التحليل و الخوض بالتفاصيل، أرجوكِ كُفِّي عن انتظار أحدهم أن ينصرك غير الله، فمهما جمعتي حولك من الآراء المؤيدة لك (و التي تكون في ظاهرها مؤيدة و في باطنها الله أعلم ما تكون) لن ينفعوكِ بشيء، كما أنهم لن يضروكِ بشيء إلا بإذن الله، أتعلمين؟ أعجبني ما قاله أحدهم مرة، قال : لا تنخدع بالعزوة و العائلة و اللمّة الكذابة، سيدنا يوسف كان له ١١ أخ و باعوه، و سيدنا موسى كان له أخ واحد و نصره، العبرة بمن يقف معك.
لذا فاختاري يا صديقتي من يقف معك كما يختار الطبيب الدواء الأنسب لمريضه، فلا يعطيه ما هبّ و دبّ من الأدوية تدخل جسده فتزيده ضررا و أذى بدلا من النفع و الشفاء
جائني اتصال قطع الحديث بيننا، فرحلتُ بعد أن اتفقنا أن نلتقي مرة أخرى في المساء لإكماله، و انطلقتُ في السيارة مع نفسي التي أخذت تُحدّثني بلا مقدّمات:
تتلاطم أمواج الحياة من حولنا، و نحاول في كل مرة أن نتشبث بشيء يجعل رواسينا ثابتة في مواجهة عقبات و تحديّات الحياة، كي لا ننزلق و نضيع مع الأمواج فينتهي بنا الحال إلى عمق الأحزان، و العلل، و الأمراض النفسية
نحاول الثبات في زمن بات فيه التزعزع و الشك و الانحلال أسهل من شربة الماء، و القشور أهم من الجوهر، و الكميّة أهم من النوعية. نحاول جاهدين أن نرفع رؤوسنا كلما انحنت متعبة من مواجهة الحياة؛ فهي لا تثبت على حال و تتنوع في اختباراتها لنا في الشدة و الرخاء، و نتمسّك بما قاله يعقوب عليه السلام: ( إنما أشكو بثي و حزني إلى الله) في لحظات الضعف و العجز و حين نوشك على الانهيار، حين قالها لم تكن فقط بحثا عن المخرج و الفرج، بل كانت لتفريغ ما يختلج في صدره من حزن و ألم، لا يُترجم لكلمات و لا بالشكوى لغير الله
نشكو إلى الله ضعفنا..
نشكو إلى الله عدم فهمنا ممن حولنا..
نشكو إلى الله خوار قوتنا..
نشكو إلى الله حيرتنا..
نشكو إلى الله تخبّطنا..
نشكو إلى الله شوقنا لمن سبقونا إليه..
نشكو إلى الله قلة حيلتنا..
نشكو إلى الله هواننا على الناس..
نشكو إلى الله ما لا نبوح به لأحد سواه..
نشكو إلى الله عصرا اختلت فيه الموازين
فأضحى الظالم فيه بريء و المظلوم يدان بلا أدنى دليل..
المعصية تُرتكب بسهولة و الطريق إليها واضح مبين
أما الطاعة فتحتاج لجهد و جهاد و صبر على مر الأيام و السنين ..
نشكو إلى الله صعوبة الحياة، و تهذيب النفس،
و تربية الأبناء ..
نشكو إلى الله مقدسات تُنتهك، و أممٌ تشرّد،
و نساء تُغتصب، و أطفال تُيتّم على مرأى من العالم، و معظمنا يغطّ في سبات..
نشكو إلى الله آلام و أوجاع لا يفهمها إلا وحده في علاه..
نشكو إلى الله و نبثّ حزننا لمن يفهمنا بلا كلام
و بكل اللغات، لا بل و اللهجات..
نشكو لمن بيده كل شيء، و نرمي خلف ظهورنا من لا يسوى في الحقيقة..أي شيء
نشكو لمن يسمعنا رغم كل شيء..
لمن يفهمنا بلا جهد و شرح لذاك الشيء..
نشكو لمن بابه مفتوح دوما لنا حتى و إن كنا قد تركناه، فحين نعود نجده مفتوحا ينتظرنا ليطبطب علينا و يزرع فينا الأمل الذي اعتقدنا أنه مات منذ زمن بعيد..
نشكو لمن أعطانا، و رزقنا، و أحيانا، و جعلنا ننعم بنعم لا تُعدّ و لا تُحصى..
نشكو لمن لا يُعجزه شيء في الأرض و لا في السماء..
نشكو لمن أمره إذا أراد شيئا قال له "كُن" فيكون..
منك نستمدّ قوتنا، و منك نشعر بقيمتنا، و بك نستعين،و لا نطلب الهداية في شؤون الدنيا و الآخرة إلا منك
فنحن لك و إليك..
مَن كنت معه فمن عليه، و من كنت عليه فمن معه
الحمدلله أننا عباد لربّ لا يخذل أبدا عبدا لجأ إليه و اعتمد عليه دون أحد، و هو القائل في كتابه العزيز (و من يتقِّ الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب) و (إنّ مع العسر يسرا) (إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد) (و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا و إنّ الله لمع المحسنين)
هو وعد إلهي لا يتغيّر كما هي وعود الكثير من البشر
توكّل على الذي لا يموت.. صدّقني فكلّ ميت لا يعوّل عليه!
توكّل على الذي لا يموت.. صدّقني فكلّ ميت لا يعوّل عليه!
و السلام..
Comments